حسن معتوق: أيام العطلة آخذة في التآكل. وعندما يداهمك هكذا شعور تضاعف السرعة وتصارع الزمن من أجل التهام المزيد من الأمكنة التي تشبع نهم العودة وتعطيها معناها. قفزت الى ذهني الولجة؛ لقد تأخرت زيارتي لها كثيرا ولا أدري ما الذي جعلني أغيب عنها كل هذه المدة الطويلة من الزمن… كنت تسكّعت فوق رملها وحجرها وبين عريشها في صيف سنة 2013م: كنت سعيت الى المقهى في بداية الظهيرة. كان شبه فارغ. اخترت طاولتي بعناية في مكان يقرّبني من أحمد أسد، كما أفعل كلما خفّت وطأة الزبائن، كي نواصل ما يطرأ من استفسارات عن الأحوال وعن أبناء المدينة الذين غابوا. وفي جانب ما، كان شخص آخر تبادلنا، أنا وهو، سرقة النظرات المصحوبة بعصر الذاكرة؛ عيناه، لو كانت لي الشجاعة الكافية لمجابهتها، لعنت لي شيئا؛ أما فمه المستعار، والملفق بالسيراميك، فقد فقد معناه، كما كل محاور الاستهلاك تفقد معناها.
توقف أحمد أسد، بغتة، كأنه تذكر واجبا عليه القيام به، فخاطبني وهو يشير إلى الغريب:
_ ألم تعرف هذا الرجل؟
أكسبني سؤاله بعض الشجاعة على التحديق في صاحبي أكثر، لكن دون فائدة.
_ لا، آسف، لم أعرفه.
_ حدّق أكثر.
زادني التحفيز شجاعة وإقداما على التحديق.
_ … آآآآآآآآآآآآآآه، زويزووووووووو.
كان زويزو رجع توّا، وللمرة الأولى، الى مدينة جرسيف بعدما غادرها منذ سنة 1983م نحو الجزائر. عاد محملا بالشوق لرؤية الوجوه والأماكن، ولأجل تفاصيل صغيرة حفظها في تجاويف ذاكرته الحمقاء وأبت أن تتلاشى في زحمة الأيام وصخب الناس ورغم هذه الغيمة الحالكة من التجاهل والتنكر والنسيان… تفاصيل لا يقدرها حق التقدير الا من نقصته كرها وصارت الى نوستالجياه بطعم الانشطار بين وطنين. كان يهفو الى جولة في الولجة وشاطئ ملوية، وكنت قابلا لأن أتسكّع معه طيلة ما بقي من النهار لأشاركه الجولة وأغتنمها فرصة لأفرغ فيه أسئلتي المتيبّسة عن غلزان، عن بلعباس، عن تيارت، وعن وهران وتلمسان… أسأله أسئلة ليست، عالمة، عن عدد السكان أو عن الأنشطة الاقتصادية أو عن الجغرافيا الطبيعية هل سهلية أم جبلية، شاطئية أم صحراوية، ولا عمن حكم هذه المناطق: المغاربة أم الأتراك… لن تكون أسئلتي صفراء باهتة عن هذه الأشياء التي تعلّمناها في الكبر وعلّمتنا اللف والدوران، وعلمتنا كيف نلغي أجزاء من وجداننا ونمعن في التكابر. سأسأله، كطفل، أسئلة صغيرة، لكنها رائقة وشفيفة وفاضحة، عن هذه الأماكن التي لا أعرفها ولا أعرف أهلها، لكن الكصبة والشيخة العمية والشيخة حبيبة والشيخ حطاب…، ولخضر بلومي وعصاد وسرباح وآخرون، ركنوها، كل بطريقته، ذات زمن، في زاوية ما من عاطفتنا؛ سأسأله، بلذة وبعينين جاحظتين: هل يرقص الناس ملتحمين في الشوارع والساحات العمومية خلال النهر المضيئة على ايقاعات المنكوشي ولعلاوي والنهايري كأنهم مطر ربيعي… هل تخرج الجزائريات بالملاحف البيضاء والديابيج والحلي الجميلة في مواكب احتفالية ليحتفين بأنوثتهن كما تفعل الريميتي… هل لازالت للعسكر غيرة المجاهدين (بتسكين الهاء) (1) ويأبى أن تمتد يد غول من غوائل الزمن الى المغرب أو الى رقعة من رقع الأرض “العربية”… سأسأله… وأسأله… وأسأله، لا غير؛ و زويزو الذي يعرف، حق المعرفة، أسئلة القلب ولوعة الأمكنة، يعرف كذلك أجوبة، وسيجيب، من قعر العشق والحمق والرغبة في خدش الصمت على الأقل، حول الأماكن والأسماء والأشياء التي ركنت فينا ومع انغلاق الحدود وطول عمر القطيعة أصبحت عبارة عن أشياء بعيدة جدا يغشّيها الشجن وتزداد “اسعيدة البعيدة” بعدا وشجنا كلما نفخ في الكصبة نافخ؛ لكنها، في الآن نفسه، أصبحت قريبة جدا وجميلة، تحيا في شوقنا وفي حنيننا، وفي حلمنا أن تصبح، يوما ما، أفقا لأسفارنا القصيرة التي تكفي فيها عطلة أسبوعية لأن يعرّض المرء رئته لأهواء هذه الربوع المنداحة في ثنايانا، لنستجيب لهذا الصوت المكتوم في جزء معطّل من وجداننا، لتنضمّ أجسادنا كما أرواحنا الى أجساد الخاوة(2) في زحمة المعيش اليومي، لنتقاسم معهم الكسرة والماء والهواء ونتشاتم شتما أبيض اذا لزم الأمر… أي، لنسترجع بعدا آخر من أبعادنا الحقيقية البسيطة، ظل مغيبا لردح من الزمن ولايزال، لا أكثر.
(1)= المقاومون في لغة الجزائريين. (2)= الاخوة باللهجة الجزائرية.